رسالة إلى أحد القرآنيين.
أحمد الله و أصلى وأسلم على رسوله الكريم النبى الأمى نبى الرحمة..
شغلتنى الحوارات التى دارت بيننا عن الحديث الشريف والسنة المطهرة و حجتها فى الإسلام دينا و فرائضا وتشريعا..
وقد فهمت تماما رأيك فى عدم الأخذ بها وأسبابك فى ذلك ولا أحتاج إلى إعادتها هنا.. إلا أننى ما أزال عند رأى فى ذلك و لقد خطر لى أمس عند قراءتى لإحدى الكتب التى تتكلم عن سيرة الإمام المعظم والملقب بناصر السنة محمد بن إدريس الشافعى أن أعرض عليك حجته كما ذكرها هو بنفسه عندما سئل عن حجية الإجماع أو إتفاق علماء الأمة فى دين الله ..أى ما هو دليله على أن ما اتفقت عليه الأمة هو حجة فى العقيدة والعمل على كل مسلم ..
وأحاول هنا والله المستعان الهادى أن أستدل بما إحتج به هو فى ردى على رأيك و رسالتى إليك من أن جمع الحديث وكتابته هو من الذكر الذى حفظه الله وأن لفظ الذكر الوارد فى الآية الكريمة "إنا نحن نَزَّلنا الذِكرَ وإنا له لحافظون" لا يقتصر على القرآن المنزل فقط ولكنه يشمل كل ما ثبت أنه صحيح عن رسول الله واتفقت عليه أمة النبى صلى الله عليه وسلم إلى الآن ومنها أمهات كتب الحديث التى تحوى كثيرا من الصحيح وأن كتاب الله وحده قائم بذاته هو حجة فى العقيدة والتوحيد والإيمان وأركانه و شروطه وصفة أهل الجنة وأهل النار ويوم الحساب وتاريخ الرسالات و هو شهادة لله على الناس يوم القيامة ولكن فرائض الإسلام وآدابه وحدوده وأوامره ونواهيه وكل عبادة ذكرها نص القرآن لابد وأن معها سنة صريحة للنبى نقلها إلينا من قيضه الله لحفظها ونقلها ثم تدوينها وكتابتها كموطأ الإمام مالك و مسند أحمد وصحيح البخارى ومسلم على ما افترضوه من شروط لصحة الحديث حسب إجتهادهم.. وواجب على كل مسلم أن يجتهد فى معرفتها و العمل بها سواء كان مقلدا أو متبعا لمذهب فى الفقه أو عالما فيه ولا يحل لمسلم أن يقصر فى ذلك مهما طال به الزمن من نهاية عهد النبوة وإلى قيام الساعة
وإليك نص ما قاله الإمام المعظم ثم بعدها أذكر أسباب إستدلالى
حدثنا محمد بن عقيل الفريابي قال : قال المزني أو الربيع : كنا يوما عند الشافعي ، إذ جاء شيخ عليه ثياب صوف ، وفي يده عكازة ، فقام الشافعي ، وسوى عليه ثيابه ، وسلم الشيخ ، وجلس ، وأخذ الشافعي ينظر إلى الشيخ هيبة له ، إذ قال الشيخ : أسأل ؟ قال : سل ،
قال الشيخ: ما الحجة في دين الله ؟
قال الشافعي: كتاب الله.
قال الشيخ: وماذا ؟
قال الشافعي: سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .
قال الشيخ: وماذا ؟
قال الشافعي: اتفاق الأمة .
قال الشيخ: من أين قلت : اتفاق الأمة ؟
فتدبر الشافعي ساعة ، فقال الشيخ : قد أجلتك ثلاثا ، فان جئت بحجة من كتاب الله ، وإلا تب إلى الله تعالى ، فتغير لون الشافعي ، ثم إنه ذهب ، فلم يخرج إلى اليوم الثالث بين الظهر والعصر ، وقد انتفخ وجهه ويداه ورجلاه وهو مسقام -أى كان ذا مرض آنذاك -، فجلس ، فلم يكن بأسرع من أن جاء الشيخ ، فسلم ، وجلس ، فقال : حاجتي ؟
فقال الشافعي : نعم ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، قال الله تعالى : وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ونُصِلهِ جهنم .. الآية سورة النساء 115.
قال : فلا يصليه جهنم على خلاف المؤمنين إلا وهو فرض - من فروض الإسلام التى يحاسب الله عليها المسلم -، فقال : صدقت ، وقام فذهب . فقال الشافعي : قرأت القرآن في كل يوم وليلة ثلاث مرات ، حتى وقفت عليه .
رحم الله الإمام الشافعى والآن أذكر أسباب إستدلالى:-
١- سأل الشيخ عن الحجة فى دين الله أى المرجع والدليل الذى يقام به الحساب على أعمال الناس فى الحياة الدنيا عند القضاء فى الإسلام و يوم القيامة عند السؤال.
٢- جدير بالإنتباه أن الشيخ لم يكن ليسأل عن الحجة فى القرآن أو السنة لوضوح البيان من القرآن فى مواضع كثيرة عن أنهما أصلان فى التشريع وإنما سأل الشيخ عن الحجة فى الإجماع - إتفاق الأمة - فقط.
٣- أوضح الترتيب الذى أجاب به الشافعى على أن كتاب الله هو الأصل فى التشريع ثم تأتى بعد ذلك سنة الرسول صلى الله عليه وسلم - ما صح منها - ثم يأتى بعد ذلك إتفاق الأمة.
٤- لا أحتاج الآن إلى التذكير بأن أمة الإسلام فى كل عصر اتفقت على نقل وإثبات والعمل بكل صحيح ثبت من فعل الرسول أو قوله بداية من الصلاة والطهارة وكيفياتها إلى الزكاة المفروضة والصيام الواجب والحج لمن استطاع إليه سبيلا والجهاد وأحكامه وحتى الوصايا والبيوع والديات و الجنائز والنكاح والطلاق و النذور و الهبات والكفَّارات وإصلاح المال وكثير لا أحصيه من فروع فقه حديث النبى صلى الله عليه وسلم إنتهاء إلى إثبات الكثير من آداب الإسلام ومقامات التقوى كمكارم الأخلاق والشكر و الإعتبار والإخلاص والنية والصبر وذم الكذب وذم الكبر وأدب الزيارة و الطعام و إكرام الضيف ودخول الخلاء واليقين والقناعة والعفاف والتوكل على الله فى كل شئ و الورع والتهجد والقيام وآداب الدعاء وإلى ما لا أحصيه هنا...
والآن يسعنى إن شاء الله أن أقول أنه لولا حفظ السنة وكتابة الحديث الصحيح وجمعه الذى بدأ منذ فجر الإسلام لشك الناس فى آثار النبى و هجرته وغزواته ومكان دفن النبى ولما علم له قبر كسائر الأنبياء من قبل ولما كان لنا أن نعلم مكانة الصحابة وفضلهم من المهاجرين والأنصار ولأصبح كل ما تبقى لنا من سيرته حِكَمٌ وأقوال ومأثورات كحكمة الإغريق واليونان وفلسفات زرادشت وسقراط أو نبوءات نوستراديموس أو ترجمات منقولة محرفة ضاع كثيرها كتبها المفترون بأيديهم كقراطيس التوراة و الأناجيل المتعددة.
و التى قادت اليهود إلى قتل الأنبياء والكفر والإفساد فى الأرض بدعوى أن الله إختارهم من دون الناس واختصهم بحبه لأنهم أبناؤه ودَعَت النصارى إلى الشك فى حقيقة وجود المسيح ذاته ناهيك عن صلبه ورفعه وحقيقة الأقانيم الثلا ثة التى تهدم إثبات التوحيد لإله واحد أحد وإنتهى بهم الضلال أن ظنوا أن لله إبنا تحمَّلَ الصلب فداءً لكل من آمن به رباً ومن عجب ومع ذلك فإن رحمته ومغفرته تضيق على من آمن به فتفتقر إلى صكوك للغفران تباع وتشترى من رجال الدين.
ولقد كانت وما تزال الحجة البالغة على كل مسلم يغلى فى صدره الشك فى مصادر السنة النبوية و الحديث هى نفسها الحجة على إيمانه و يقينه بالقرآن الذى تم جمعه وإثباته بالخبر عن الجماعة و الواحد ونقله ثم تصحيفه بعد موت النبى حيث توفى النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم لم يُجمع في مصحف واحد مكتوب، وإنما كان متفرقاً في الصدور والألواح ونحوها من وسائل الكتابة فى عهد ثلاث خلفاء آخرهم مصحف عثمان رضى الله عنه الذى أحرق كل المصاحف إلا واحد نسخه ثم أرسله إلى الأمصار وهو الذى أجمعت الأمة عليه وبين أيدينا.
فمن شك فى صحيح الحديث و السنة لأنها عن النقل و الأثر وتفتقر إلى السند الموثوق وأغفل إتفاق الأمة و علماءها على الصحيح والحسن منها فكيف لا يشك فى القرآن الذى جمعت آياته بالنقل والأثر ثم إتفاق الأمة على مصحف عثمان.
وحتي الآية الكريمة "إنا نحن نَزَّلنا الذِكرَ وإنا له لحافظون" هى نفسها كسائر آى القرآن جمعت بالنقل والأثر برواية الجماعة ثم كتبت فى المصحف على الترتيب والموضع الذى أوقف عليه النبى صلى الله عليه وسلم الصحابة مما حفظوه تلاوة فى صدور الرجال أو أثبتوه كتابة على العُسُب و اللَّخاف والألواح .
ولا أجد أوقع من أن أختم رسالتى إليك بقول مأثور أيضا عن الإمام الشافعى أرجو أن يكون صحيحا حين قال "لولا المَحَابِرُ لخَطَبَتِ الزَّنَادِقَةُ على المَنابر" أى لولا السنة الصحيحة المدونة المكتوبة بالمحابر والتى حفظها الله بحفظه للذكر لاعتلى المنابر الزنادقة و الملحدين الزائغة قلوبهم عن الحق يفتون بالجهل فى الدين ويبتدعون فى الإسلام بدعا من الأفعال و الأقوال ويتأولون القرآن بالرأى والهوى ثم يٌسقطونَ الأعمال والفرائِض لجحدهم العملَ بالسُنَة فيقودون أمما من الناس إلى الكفر ويشاقون الرسول فيما بلغ عن ربه "وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ونُصِلهِ جهنم "
أسأل الله العافية لنا ولكم .. أسأله العافية من كل بلية و أسأله تمام العافية وأسأله دوام العافية وأسأله الشكر على العافية وأسأله الغنى عن الناس.